أصوات نسوية، مقابلة مع نور حريري

أصوات نسوية، قراءة في الحراك النسوي السوري

مقابلة مع الباحثة والكاتبة والمترجمة نور حريري

إعداد: رجا سليم 

نور حريري، باحثة وكاتبة ومترجمة، حاصلة على ماجستير في الفلسفة، مديرة تحرير مجلة “رواق ميسلون” للدراسات الثقافية والسياسية. معدّة ومقدّمة بودكاست “فضاءاتهن” في صحيفة العربي الجديد، عضوة لجنة علمية في عدد من المجلات الثقافية المحكَّمة. حائزة على المركز الأول في مسابقة القصة القصيرة لعام 2016 التي ينظمها المعهد الأوروبي للبحر الأبيض المتوسط في برشلونة، إسبانيا. لها قصة قصيرة منشورة بعنوان “أسباب وأسماء”، وعدة ترجمات منشورة منها: مفترق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية لجوديث بتلر، سُبُل النّعيم: الميثولوجيا والتحوّل الشخصي لجوزيف كامبل، الحياة النفسية للسلطة: نظريات في الإخضاع لجوديث بتلر؛ وأبحاث منشورة منها: الترجمة تفكيكياً: الخطاب النسوي نموذجاً، الجوهرانية والجوهرانية الجديدة في النظرية النسوية.

أهلا بكِ نور،

  1. نور حريري من الأكاديميات المنتجات لأبحاث وترجمات تتعلق بالجنسانية ودلالات اللغة وإسقاطها على واقع النساء في مجتمعاتنا، حدّثينا عن سبب اهتمامك بهذا المجال تحديداً.

 الاهتمام بهذا المجال تحديداً، أي مجال النظرية النسوية والجندرية، جاء بصورة طبيعية نتيجة للأسئلة التي كانت لديّ، بوصفي أنثى ذات خصوصية ثقافية وسياسية من جهة وذات خصوصية مادية وجسدية من جهة أخرى، ولم أجد لها إجابة في المجالات الأخرى أو حتى في الحركات النسوية الثقافية. إلا أنني وجدت في هذا المجال الحرية التي أريدها لنفسي، وأفقًا رحبًا للتحرك والتفكير والإنتاج والتطبيق. كما وجدت المجال في حدّ ذاته مِحكًّا يمكن أن توضع عليه الأفكار والآراء فينكشف مدى صحتها أو بطلانها. فالنظرية النسوية والجندرية لا تتناول القضايا المتعلقة بالأنثى أو الجندر فحسب، بل إنها تتطرق إلى كبرى النظريات والأفكار الفلسفية والثقافية والسياسية والعلمية.

  1. تتناولين النسوية والجندر من زاوية أكاديمية، كيف تصفين النظريات المتعلقة بهذا المجال مقارنة مع العمل النسوي السوري على أرض الواقع؟

أعتقد شخصياً أن للعمل النسوي السوري على أرض الواقع مزايا وعيوب في آن معًا. فمن ناحية أولى، العمل في هذه الظروف الصعبة التي يعيشها السوريون والسوريات في حدّ ذاته إنجاز عظيم يستحق التقدير. وأنا سعيدة بكل كلمة نسوية نُطقت أو عمل نسوي قُدِّم أيًا كان نوعه وبصرف النظر عن مدى اتفاقي معه. إلا أنني في الوقت نفسه أجد أن أي عمل يحتاج إلى أرضية نظرية صلبة، إلى خلفية معرفية وعمل منظَّم. والنضال النسوي، شأنه شأن النضالات الأخرى، يحتاج إلى التفكير والتنظيم، والنقد أيضًا، وهذا ما يفتقر إليه العمل النسوي، الذي يطغى عليه الطابع الثقافي غير الكافي.

  1. هل تعتبرين هذه النظريات قادرة على خلق آليات عمل نسوي في السياق السوري؟ كيف يمكن الاستفادة منها في تطوير العمل النسوي؟ 

الإجابة عن هذا السؤال نجدها في تعريف النظرية نفسه، فالنظرية هي سِجِلّ المحاولات التي تهدف إلى فهم ظاهرة معينة وتفسيرها والتحكم بها من خلال إدراك الأخطاء السابقة وتداركها. وفيما يتعلق بالسياق السوري، فهذا السياق فضفاض جداً. نحن أساساً لا نستطيع أن نحدّد أو نعرّف ما هو السياق السوري، أو مَن هي المرأة السورية وبالتالي النسوية “السورية” التي تناسب واقعنا وسياقنا. فالنساء في سوريا يختلفن اختلافًا جذريًا في جميع المستويات- الثقافي والتعليمي والديني والاجتماعي والنفسيّ- فتبرز هنا الأسئلة النظرية، الضرورية للعمل السياسي، التي لا مفرّ منها، مَن هي المرأة التي يستهدفها العمل النسوي في السياق السوري اليوم؟ هل يشمل العمل النسوي السوري كافة النساء؟ ما هو المنهج النسوي الذي يتبعه العمل النسوي السوري؟ فليس هناك “نسوية” محض، كل نسوية لها نهجها وإشكالياتها وحدودها.

  1. برأيك كيف يُجاب عن هذه الأسئلة وما المبادرات أو التغييرات التي يمكن أن تقوم بها الأجسام النسوية لتطوير العمل النسوي في السياق السوري؟ 

الإجابة عن سؤال كهذا ليست سهلة تمامًا، لأن المسؤولية لا تقع ببساطة على الأجسام النسوية وحدها، فتأثير الأجسام النسوية يبقى ضعيفًا أمام تأثير السلطة الاستبدادية القائمة. ومن ناحية أخرى، هناك انقسام جوهري بين مَن هم داخل سوريا ومَن هم خارجها، وهو أيضًا انقسام على مستوى الوعي النسوي. فالاختلاف هو ليس ضمن الداخل وضمن الخارج فحسب، بل هو بين الداخل والخارج.  لكن على الرغم من ذلك، يمكننا القول إن الخطوة الأولى هي تحديد موقعنا التاريخي من النسوية والنضال النسوي، وفهم مدى ارتباط النسوية بمُحدِّدات هوياتية أخرى اقتصادية واجتماعية. أرى أن النشاط النسوي في حالة من التخبّط، فهو يحاول اختزال ما لا يقل عن مئة عام من النضال والتنظير والتطور التدريجي في مستوى الوعي والتطبيق لدى الغرب ونقله، على ما هو عليه، دفعة واحدة إلينا من خلال مجموعة من الخطابات الصادِمة والمبعثرة. يطبِّق نظريات بصورة عشوائية، ثم يقع في حتميات، ثم يُنتَقَد، فيتراجع ويعيد الكرة من جديد. لذلك أؤكد مجددًا على أهمية تحديد اللحظة التاريخية وعدم الانجراف وراء الأفكار والنظريات النسوية الحديثة الرنانة، والسماح للوعي النسوي بالتطور الحرّ التدريجي. 

  1. قرأت لكِ رأياً تطرقت فيه إلى مفهوم النسوية المادية الجديدة وأهميتها في الممارسة السياسية، هلا توسعتِ في شرح هذه الفكرة؟

تختلف النسوية المادية الجديدة التي تطرقتُ إليها عن النسوية المادية المتعارف عليها، فالمادية الجديدة تدعو إلى التركيز على المادة والخصوصية الأنثوية المادية، وتشجِّع النسويات على التوجه نحو العلوم الطبيعية والبيولوجيا، وتحذِّر من الهرب من العلوم الطبيعية من خلال اختزال المادة إلى ثقافة كما فعلت النظريات النسوية التفكيكية وبعد الحداثية. ويُعدّ هذا التوجه الجديد ضرورياً ولاسيما في النضال النسوي من أجل الحقوق السياسية والاجتماعية التي غالباً ما تُقّرّ وتؤسَّس وفقاً لنزعة وضعية وصوابية سياسية رائجة غير قادرة على تقديم إجابات علمية منطقية، فتهرب من الإجابة بنزعة معادية للعلم وباللجوء إلى خطاب الصوابية السياسية الذي، وإن أظهر فاعلية سريعة، سيعيد ترسيخ المعايير الذكورية لا محالة. يحتكر اليمين المتطرف اليوم العلم، ما أدى إلى ظهور نزعة علموية تزداد شدتها ويزداد انتشارها يوماً بعد يوم، فالعنصرية الجديدة والتمييز الجديد القائم على النوع الاجتماعي (الجندر)، يعيد إنتاج نفسه من خلال العلموية الجديدة التي لا تعتمد إلا على المنهج التجريبي والتوصيفي، وغياب النسويات عن هذا المجال يساهم في مفاقمة المشكلة. نحن اليوم في أمس الحاجة إلى دمج التنظير المادي بالتنظير السياسي الثقافي، وإلى تعاون حقيقي بين هذين المجالين، وعدم اختزال المادة إلى ثقافة كما تفعل الثقافوية، أو اختزال الثقافة إلى مادة كما تفعل العلموية. 

  1. إذاً، هل تساهم الصوابية السياسية برأيك في إنجاح النضال النسوي أم في إفشاله؟

لا أعتقد أن الصوابية السياسية تساهم في إنجاحه أو حتى في إفشاله، بل في إخماده وضبطه وإبقائه في حدود معينة. لكن هذه الحدود ستتيح مع الوقت إعادة إنتاج الذكورية بقالب جديد. فبينما يرى المدافعون/ات عن الصوابية السياسية أنها تساهم في إيقاف خطابات الكراهية والذكورية والتمييز العنصري، يعتقد مناهضوها أن مشكلة الصوابية تكمن في الحدّ من حرية التعبير. لكن المشكلة في الواقع ليست تحديداً في هذا ولا في ذاك، المشكلة بالأحرى هي في المنطق الضمني لخطاب الصوابية السياسية، الذي هو بلا مضمون، وهو مجرد “شكل” و “بنية” خاصة يمكن استخدامها وتصويبها نحو أي رأي أو وجهة نظر، وهو ما يحصل الآن، فبعد أن راج المصطلح في الأوساط المناهضة للتمييز والعنصرية، تغيَّر المصطلح ليصبح اليوم أداة مفيدة في يد اليمين، حيث يقول يمينيٌ مثلاً: يجب أن أكون صريحاً وأقول كذا وكذا، فأنا من خلال قولي هذا أتصدى للمحظور، ما يضع اليمين في موقع الأقلية المقموعة. كما أن الصوابية السياسية تفسح المجال لشمولية جديدة، وتتيح لكثير من الانتهاكات الضمنية، ما يجعل المدافعين/ات عنها أشخاصاً منضبطين من الناحية اللغوية ليس إلا، وما يساهم في تكريس ادعاءات “ما بعد الحقيقة”.

  1. قرأت لكِ رأي بخصوص ما يشاع عن إهمال المرأة للمجال السياسي وغيابها عن ميدان صنع القرار واعتبرتِ أن “المرأة هي السياسة عينها”، هلا توسعتِ في شرح هذه الفكرة؟

لا يخلو جانب من حياة المرأة من السياسة، السياسة بمعناها العميق والواسع، وقد شدّدت النظرية النسوية بصورة عامة على الطابع السياسي لحياة المرأة الشخصية وكتبت نسويات عدة حول الارتباط بين مشكلات المرأة الشخصية والمشكلات السياسية وقد توسَّعتُ في هذا الموضوع في مقال سابق. لكن، على الرغم من انطباع المرأة بهذا الطابع السياسي، بشكل غير إرادي، أودّ أن أشدّد على حق المرأة في رفض هذا الطابع والتحرّر منه، هذا الحق الذي حصلت عليه أيضاً بفضل النضال النسوي الطويل عبر التاريخ، أشدِّد على حقها في أن “تكون” موجودة بذاتها ولذاتها وللغايات التي تختارها لنفسها، وأجد في ذلك انتصاراً للمرأة. علينا أن نكون حذرين وحذرات جداً حين نستخدم مقولة المرأة السياسية، فإن اعترافنا بالطابع السياسي هو رفض له، لا ترسيخ لوجوده. 

*كل ما ذكر في المقابلة يعبر عن رأي من أجريت معهن/م المقابلة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية